د. محمد جميح
سيف المسيح.. خَد محمد
الساعة 07:54 مساءاً
د. محمد جميح

هناك صورة نمطية للشخصيتين الرساليتين الكبيرتين في التاريخ: المسيح ومحمد عليهما السلام، يظهر الأول في الصورة بخد مضروب والآخر بسيف مسلول، وهي صورة ممنتجة غير مكتملة، يغيب عن لونها دمع محمد العابد وسيف المسيح المتوعد، أو يختفي منها الدمع الذي بلل خد محمد والسيف الذي جاء به المسيح، وذلك لأنه تم التعامل مع حقيقة هاتين الشخصيتين بانتقائية موجَّهة، قولبت الشخصيتين الرساليتين في أطر محددة، بناء على رغبة السلطة السياسية ـ عبر الزمن ـ في إعادة إنتاج الشخصيات والأحداث، حسب الأهداف السياسية لهذه السلطة

وطالما كانت الانتقائية ـ ولا تزال ـ وسيلة ناجعة لانتاج الصور النمطية الموجهة، وذلك عبر أدوات كثيرة تعيد صياغة الشخصيات والمشاهد والسرديات والتواريخ والأخبار

فوسيلة الإعلام ـ مثلاً ـ تنتقي من الأخبار ما يوائم سياستها التي هي سياسة السلطة المالية، والأحزاب السياسية تنتقي مثالب خصومها للنيل منهم، والسياسات الدولية تتعامل بمكاييل مختلفة حسب الزمان والمكان والعرق واللون والدين، وفق معايير يكون بموجبها شخص ما إرهابياً إذا وجه رصاصته نحو دولة أو كيان ما، ويصبح مدافعاً عن الحرية إن وجهها نحو دولة أو كيان آخر، بغض النظر عن أي عوامل أخرى

ووفقاً لهذه الانتقائية لا تُعرض الرواية كاملة، بل تُعاد منتجة المشاهد لتقديم سردية مختلفة، وتُتلى نصوص دينية ويُغض الطرف عن أخرى، لدعم هذه الرؤية المذهبية أو تلك، وتقوم الشاشة بتقديم نصف الحقيقة أو أقل، ولذا تكمن الحقيقة أحياناً فيما لا يقال، ويكمن المعنى في الكلام المحذوف أكثر من كمونه في الكلام المكتوب

وقديماً كرست السلطات الرومانية عن طريق ذراعها الكنسية القول المنسوب للسيد المسيح في الإنجيل «إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وإذا أخذ أحدهم رداءك فأعطه إزارك» وذلك كي يظل الإقطاعيون يضربون خدود ملايين الفلاحين، ويظل أرباب العمل يلطمون ملايين العمال باسم التسامح والصبر والتحكم في النفس واتباع تعاليم المسيح

واستمرت السلطة ذاتها تكرس القول ذاته وللهدف نفسه، وجاءت النسخ الإمبريالية من روما القديمة، وأخذت تضرب يميناً وشمالاً، وتبطش بالمستضعفين وتدير خدودهم أيمن وأيسر، وتصفعهم وجهاً وقفا، وتتحكم بهم أرضاً وسماء، وثروة وسيادة، وجاءت موجات الحروب المقدسة، وحضر تاريخ الحروب الصليبية، وجاء الاستعمار الحديث، وضُرب الخد الأيمن والأيسر وأُخذ الرداء والإزار والذهب والفوسفات والقطن والزيتون والنفط والغاز، وصُرف للفقراء المزيد من تعاليم المسيح، و«إذا ضربك أحدهم…الخ»

لم تقل روما قديماً، ولا قالت الكولونيالية الحديثة إن المسيح عندما وجد المؤمنين مقهورين محزونين أذلاء أنكر عليهم حالهم تلك، «فقالوا له: يا أبانا أنت الذي أمرتنا أن ندير الخد لمن ضرب ونعطي الرداء لمن أخذ!فقال لهم: نعم أنا أمرتكم بذلك، لكني لم آمركم أن تفعلوه إلى الأبد، ولم آمركم أن تفعلوه مع الساقطين المجرمين الذين لا يعرفون معنى المحبة والرحمة والتسامح

قالوا: وماذا علينا أن نفعل الآن؟ فقال: الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من لم يكن عنده سيفٌ فليبع ثوبه وليشترِ بثمنه سيفاً، وفهم المؤمنون رسالة المسيح وقالوا: الآن حصحص الحق».

كم من المؤمنين يعرفون قول السيد المسيح: «إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» وكم منهم يعرفون قوله: «من لم يكن عنده سيف فليبع ثوبه، وليشتر بثمنه سيفاً»؟ لقد عمل التحالف «الكهنوبلاطي» بين سلطة روما وسلطة الكنيسة على إشهار وجه وحيد للمسيح، وجه انتقائي، بخد أيمن مضروب وخد أيسر مستدير، حتى جاء زمن أخذ فيه القيصر الرداء والإزار، ووضع بعض الذهب في فم الكاهن ليسكت، فسكت عن الوجه الآخر للمسيح الذي يرفض إعطاء الثوب، ويأمر بشراء السيف، لقتال من أسماهم «الساقطين المجرمين الذين لا يعرفون معنى المحبة»

إن السردية القيصرية عن السيد المسيح هي سردية انتقائية تناسب أهداف سلطة روما لا رسالة المسيح، وإذا كان المسيح قد قال النصين السابقين، فإن التركيز على أحدهما وإغفال الآخر يتسق مع التعامل الانتقائي الذي تنتهجه السياسات الدولية إزاء القضايا والملفات المختلفة

وبطبيعة الحال، فإنه لا يوجد تناقض بين قولي المسيح، إذ لكل منهما سياقاته ومقاصده، فإدارة الخد الأيمن تأتي في سياق، وشراء السيف يأتي في سياق مختلف، ومن الخطأ الخلط بين السياقات، بوضع الندا في موضع السيف، أو السيف في موضع الندا، على حد قول أبي الطيب المتنبي.

ومع ذلك فإن السلطات الرومانية احتكرت لنفسها قول المسيح: «فليشتر سيفاً» وطلبت من ذراعها الكنسية أن توجه رعاياها بالامتثال لقوله الآخر: «فأدر له الأيسر» وهنا نتجت معادلة أصبح فيها السيف من نصيب السلطة والضرب من نصيب الرعية، وذلك بسبب من الانتقائية التي مارستها المؤسسات الدينية والسياسية التي حرصت على إظهار وجه واحد للمسيح جسدته الفنون الكلاسيكية المختلفة في تماثيل حزينة على مداخل الكاتدرائيات وجدرانها

هذه المؤسسات هي ذاتها التي مارست وتمارس الانتقائية في النصوص الإسلامية، لتظهر وجهاً واحداً لنبي الإسلام محمد عليه السلام، في صورة أعرابي يقطر سيفه دماً ويغزو ليسبي الجميلات ويدمر الحضارات.

وهي الانتقائية التي تركز على النص القرآني «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» دون اعتبار لمن هم هؤلاء الذين يأمر القرآن بقتالهم، ولا لماذا أمر، ولا لسياقات النصوص، وهي الانتقائية التي تغفل تماماً عن ذكر «وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين» وعن «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» ونصوص أخرى كثيرة تدعو للصبر والتحمل والعفو والتسامح

هذه الانتقائية المغرضة سعت وتسعى لإعادة إنتاج الشخصيتين الرساليتين بما يتناسب مع توجهات القياصرة غرباً والأكاسرة شرقاً، ليعاد إنتاج الرسالتين في خد مضروب من جهة وسيف مسلول من جهة أخرى، مع حرص شديد على أن أن يظل صاحب الرسالة الأولى بخد مضروب إمعاناً في استلاب مقاومته، لاستمرار اضطهاده وإذلاله، وصاحب الرسالة الثانية سيفاً مسلولاً، إمعاناً في تجريمه وشيطنته، لاستمرار استهدافه وضربه

وفي الحالين فإن «التحالف الكهنوبلاطي» هو الذي يعمل على مأسسة الرسالات الروحية، وإعادة إنتاجها بانتقائية شديدة لتكييفها لخدمة أهداف هذه التحالف في إبقاء المسيحية في صورة الحمل الوديع للاستفادة من صورته في تجميل وجه النيوكولونيالية، وإبقاء الإسلام في صورة الوحش الضاري، للاستفادة من صورته في تجييش العالم ضد المسلمين باسم الحرب على الإرهاب، ومن صورتي الحمل والوحش تستفيد السياسات الدولية بإخصاء المزيد من الحملان لتلقي مخرجات تلك السياسات، وبشيطنة المزيد من الوحوش الممنتجة لصرف الأنظار عن المخالب الحقيقية التي تخمش بها تلك السياسات وجه الحمل وجسد الوحش، في وقت تسيطر فيه على الجمهور حال من الخدر اللذيذ، نتيجة مشاهدة أشواط من صراع الثور الإسباني والخرقة الحمراء التي جاءت لصرف الأنظار عن عشرات الطعنات التي يتلقاها الثور الهائج المسكين، وسط تصفيق جمهور لا تنقصه السادية، وهو ينظر إلى الدماء تتثعب والجراح تنزف

وبسبب من تكريس صورة المتدين المسيحي مضروب الخد ذهب بعض التوجهات الفكرية الثورية إلى أن الدين «أفيون الشعوب» حسب التنظير الماركسي، وبسبب من صورة المتدين المسلم مسلول السيف، ذهبت الكثير من التنظيرات الاستشراقية واليمينية إلى أن الإسلام هو الإرهاب، ولأن تلك الأحكام بنيت على أساس صور ممنتجة فإنه يصعب التسليم بدقتها ناهيك عن صوابيتها، حيث إنها بنيت على أساس رواية من نص واحد، مهملة بقية النصوص التي تعطي للرواية صورتها المكتملة، ومعناها الحقيقي نصياً وسياقياً، وهو المعنى الذي لا يكتمل دون ذكر قول السيد المسيح «ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفا» مع قوله «فأدر له الأيسر» ومن دون ذكر النص القرآني «فاقتلوهم حيث ثقفتموهم » مع النص «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» وهنا يمكن الوصول إلى مقاربة موضوعية، أما ما عدا ذلك فمجرد قراءات انتقائية مجتزأة ومغرضة، لمزيد من الابتذال لخد المسيح، ومزيد من الشيطنة لسيف محمد عليهما السلام.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص