علي الدين هلال
هل تموت الثورات؟
الساعة 02:21 مساءاً
علي الدين هلال
(1) كتب هنري كسينجر وزيرُ الخارجية الأمريكي أنه في حديث له مع شو إن لاي رئيس الوزراء الصيني، سأله عن تقديره لتأثير الثورة الفرنسية في التاريخ الحديث. وبعد برهة من التأمل أجابه بأنَّ الوقت ما زال مبكراً للتقييم، لأن أفكار الثورة الفرنسية ما زالت تتفاعل مع مجريات الأحداث. وعلَّق كسينجر بأنَّ هذه الإجابة تعبير عن الحذر والحكمة الصينية وعدم التسرع في إبداء الرأي.

تردّدُ شو إن لاي في تقييم دور الثورة الفرنسية (عام 1789) بالرغم من مرور قرنين على نشوبها، يعود إلى فهمه العميق لمعنى ظاهرة الثورة. فالثورة هي حدث استثنائي، ذلك أنَّ سُنَّة الحياة هي التطور وإحداث التغيير تدريجياً وبصورةٍ تراكميّة، وعندما تعجز المؤسسات الاجتماعية والسياسية عن الاستجابة للتغيير، وتنسدُّ قنوات اتصالها مع المطالب الجديدة للقوى الاجتماعية، وتفشل في التعبير عن توقعاتها، تنشأ البيئة الموضوعية لحدوث الثورة.

والثورة أعمق من مجرد تغيير شكل النظام السياسي أو الاقتصادي. وبالرغم من كثرة الوقائع والأحداث التي تلقِّبها وسائل الإعلام في البلدان العربية – وغيرها – بالثورات، وبالرغم من حرص شاغلي السلطة الجدد على وصف الأحداث التي أوصلتهم إلى الحكم بالثورات، فقليلة هي تلك الأحداث التي ينطبق عليها وصف الثورة بالمعنى العلمي والتاريخي.

وإذا كانت الثورات تجد مبرراتها في الظروف المتردية التي أدت إلى حدوثها، فإن شرعيتها تنبع من كونها تحولات مفصلية في مسارات مجتمعاتها، ومن مشاريعها لنهضتها الشاملة التي تشمل: القوانين والنظم والمؤسسات والقيم والثقافة؛ كما تنبع شرعيتها من قبول المواطنين وتأييدهم لها في داخل الدول التي قامت فيها، وفي تأثيراتها الخارجية إقليمياً ودولياً، فالثورات هي علامات فارقة على التحوُّل من حال إلى آخر.

(2) وأتوقف أمام البعد الخاص بالقيم والمبادئ والثقافة في فهم معنى الثورة، فمن الطبيعي أن تتغيير القوانين والنظم والمؤسسات التي أقامها النظام الثوري وذلك مع تغيير الظروف والحاجات، ولكن ما يبقى هو ما تمثله الثورة من قيم ومبادئ ترسخت في وجدان الشعوب، وأصبحت جزءاً من نسيجها الثقافي وضميرها الوطني والقومي.

وتندرج ثورة 23 تموز/يوليو 1952 ضمن نمط الثورات التي لم يقتصر تأثيرها على المجتمع الذي قامت فيه وإنما امتد ليشمل إطارها الإقليمي والدولي، فهي ثورة متعددة الجوانب والأبعاد:

– هي ثورة سياسية غيَّرت شكل نظام الحكم في مصر من الملكية إلى الجمهورية، وأكدت مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين كأساس لبناء الدولة الوطنية الحديثة، وكان التعبير الأثير الذي خاطب به الرئيس جمال عبد الناصر الشعب هو «أيها الأخوة المواطنون».

– وهي ثورة اجتماعية نقلت سلطة الحكم من طبقة كبار ملّاك الأرض الزراعية والبرجوازية الكبيرة إلى الطبقة الوسطى، واتبعت سياسات تحقيق العدالة الاجتماعية وما سمي وقتذاك بتذويب الفوارق بين الطبقات.

– وهي ثورة وطنية ضد الاستعمار والاحتلال رفضت الانخراط في الأحلاف مع الدول الغربية الكبرى، ولم تقبل سياسات الإملاء من الخارج، وحرصت على امتلاك حرية القرار الوطني داخلياً وخارجياً، فكانت رائدة ومؤسسة لسياسات الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.

– وهي ثورة قومية أدركت مبكراً حقيقة أن مصر جزء من وطن عربي أكبر، فأكدت عروبتها في الفكر والممارسة، ودعمت حركات النضال العربي ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي، واشتبكت في صراعات ممتدة مع القوى المهيمنة في العالم من جراء ذلك.

– وهي ثورة تحررية عالمثالثية امتد دورها وتأثيرها لدعم حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأصبح اسم عبد الناصر رمزاً لمكافحة الاستعمار والنفوذ الأجنبي.

(3) إنَّ مفهوم الاستقلال الوطني والقومي هو حجر الزاوية في فهم ثورة تموز/يوليو، وهو لم يقتصر على الجانب السياسي بل امتد إلى مجالات أخرى. ففي المجال السياسي، حرص عبد الناصر على الدفاع عن كرامة الوطن، والاستقلال العربي، ومكافحة النفوذ الأجنبي والدعوة إلى سياسة خارجية مستقلة نابعة من الداخل وتخدم مصالح بلادها وتحمي أمنها، وغير مفروضة من الخارج بسبب علاقات التحالف مع دول كبرى، مع التشديد على أنَّ الأمن القومي ينبع من التماسك السياسي والاجتماعي الداخلي، ومن ارتباط المواطنين بنظم الحكم في بلادهم، وأنَّ الأمن لا يمكن استيراده من الخارج. وعندما يستعيد الباحث خطابات عبد الناصر يجد أنها تمتلئ بكلمات العزة والكرامة وحق الشعوب في نيل استقلالها، ويجد عبارات قوية ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي ومع الثورة ضد الظلم والاستعباد، وأن الاستقلال ليس مجرد الحصول على الاستقلال القانوني، ولكنه توفير مقوّمات قدرة الدولة على ممارسة سيادتها، وحقها في اتباع السياسات التي تخدم مصالحها من دون إملاء من الخارج.

وهذه المعاني تخاطب أحاسيس عميقة لدى جمهرة العرب الذين يشعرون بعدم العدالة وبازدواجية المعايير التي تتبنّاها الدول الكبرى في تعاملها مع القضايا العربية. وأعطي مثلاً واحداً للدلالة على ذلك، فبينما حرصت واشنطن على إبلاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مسبقاً بالمحادثة التليفونية، التي سوف يجريها الرئيس أوباما مع نظيره الإيراني في عام 2013 والتي كانت البداية العلنية للتواصل بين الدولتين، فإنها لم تكلِّفْ نفسها عناء نقل رسالة مماثلة إلى أي دولة عربية، والأمثلة كثيرة سواء في ما يتعلق بالمحادثات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وملف الدعوة إلى إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، أو ملف العلاقات الأمريكية – الإيرانية وتداعياتها على بلدان الخليج العربي ففي هذه الملفات وعود لم تنفذ، وتطمينات لا سند لها، وقصص خداع يندى لها الجبين.

وفي المجال الاقتصادي تضمن مبدأ الاستقلال الوطني حق الشعوب في السيطرة على مواردها الطبيعية وأن بترول العرب للعرب، وكان تأميم شركة قناة السويس في عام 1956 أول ممارسة ناجحة لدولة من العالم الثالث للسيطرة على مواردها، بعد فشل محاولة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في تأميم البترول بسبب الانقلاب العسكري الذي دبّرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ضده.

وفي المجال الثقافي تضمن المفهوم مشاعر الافتخار القومي والشعور بالعزة والكرامة. وكانت هاتان الكلمتان من أكثر الكلمات وروداً في خطابات عبد الناصر وأحاديثه، حتى إن الصحفي الأمريكي ويلتون وين الذي ترأس مكتب مجلة التايم في القاهرة في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي ألَّـف كتاباً بعنوان ناصر: البحث عن الكرامة.

(4) في ضوء كلِّ ذلك، ما هو معنى أن يرفع بعض الناس صور عبد الناصر في التظاهرات والأنشطة الاحتجاجية التي عمِّت مصر بعد كانون الثاني/يناير 2011؟ وما هو معنى أن توجد تيارات فكرية تنسب نفسها إلى ثورة تموز/يوليو في عديد من البلدان العربية؟ وما معنى أن توجد مبادئ هذه الثورة في برامج وسياسات أحزاب وقوى سياسية عربية؟ المعنى هو أن هذه الأفكار والمبادئ والقيم أصبحت جزءاً من الضمير الجماعي العربي، وأنها لم تزل تعبِّر عن تطلعات بسطاء القوم إلى وطن أفضل وأكثر عدالة وحرية.

وكما ذكرت، فإن النظم والسياسات هي بنْتُ ظروفها، وتتغيَّر بتغييرها، ولا أتصور أبداً أن الاحتفاء بثورة تموز/يوليو هو مجرد «نوستالجيا» أو دعوة إلى استعادة الماضي واستنساخه فهذا غير ممكن وغير صائب. فمصر اليوم ليست مصر الخمسينيات والستينيات، والأمر نفسه ينطبق على الوطن العربي والشرق الأوسط والعالم. ولكن الأمر يختلف عندما نتناول المبادئ والقيم والأفكار الكبيرة التي تتسم بالاستمرار بحكم ارتباطها بالتطلعات الجماعية للشعوب والهوية الوطنية والقومية. وكانت هذه الأفكار هادية لفريق البحث في مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي الذي نفذه مركز دراسات الوحدة العربية خلال الفترة 1980 – 1985 وصدر في عدة مجلدات. كما كانت هادية لعشرات الباحثين والمفكرين في صياغة المشروع النهضوي العربي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي تحددت أهدافه في: الديمقراطية، والوحدة العربية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري.

وربما كان أحد أخطاء القيادات الشبابية لانتفاضات السنوات الأخيرة هو أنهم لم يطرحوا أنفسهم وحركاتهم كجزء أو كحلقة من مسيرة النضال الوطني في بلادهم، ولم يحرصوا على «التموضع» في سياق تاريخي وثقافي أكبر، فبدت تلك الحركات مُنْبتَّة الصلة بتاريخ أوطانها، وسهُلَ على القوى الأخرى – والتي لم تكن جزءاً أصيلاً من الفعل الثوري – اختطافها والانحراف بها عن مسارها.

(5) الثورات لا تموت لأنها ليست من صنع فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، بل هي نتاج جهد شعب وعبقرية مجتمع. فالمبادئ والأفكار التي ترفعها ثورة ما ليست من اختراعها، ولكنها تعبير عن تراكم الخبرة التاريخية لشعب من الشعوب، والشعوب تُقبل على هذه الأفكار وتتمسك بها لأنها تجدها ممثلة لحاجاتها وتطلعاتها، فالأفكار تنتشر بين الناس – كما يؤكد علم اجتماع المعرفة – ليس لتناسقها المنطقي وتماسكها المعرفي ولكن لأنها تلبي حاجات اجتماعية ونفسية لديهم أو تعبر عن تطلُّع يشتاقون إليه، وهذا هو سر ارتباطهم بها.

وفي حالة ثورة تموز/يوليو فإن أغلب الشعارات والأفكار التي طرحتها أو ارتبطت بها كانت معروفة من قبل ومتداولة بين بعض الأحزاب والقوى السياسية، وكان فضل الثورة أنها قامت بمهمة «التوليف» بينها وتأطيرها وجمعها في منظومة واحدة، ثم نقلها من عالم النظر والأفكار إلى عالم الممارسة والتطبيق.

وفي الظروف العربية الراهنة تزداد الحاجة إلى استيعاب مبادئ ثورة تموز/يوليو، فلا تزال المشاكل والتحديات نفسها تحاصر بلادنا العربية. مشاكل مثل مواجهة أعباء التنمية المستقلة وتبعاتها، وتنفيذ سياسات العدالة الاجتماعية وبناء مجتمعات المواطنة والمشاركة، وحرية القرار الوطني. وتحديات مثل استمرار المشكلة الفلسطينية والخطر الإسرائيلي، وازدياد اختراقات دول الجوار الجغرافي، والمخاطر والتهديدات المؤثرة في الأمن العربي.

وكانت حصيلة هذه المشاكل والتحديات تراجع مفهوم المواطَنة والانتماء القومي لمصلحة انتماءات طائفية ومذهبية وإثنية كان من شأنها اندلاع الحروب الداخلية وتهديد كيان الدولة. ولا سبيل لمواجهة ذلك من دون إحياء مشروع الدولة الوطنية الحديثة التي قدمت ثورة تموز/يوليو نموذجاً لها، و من دون إحياء سياسات التضامن والاتحاد العربي الذي كان نهجاً ثابتاً لهذه الثورة.

فهل يمكن – بعد ذلك – الادعاء بأنَّ مبادئ هذه الثورة ماتت؟.

(**) أستاذ العلوم السياسة، جامعة القاهرة.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً