بشير البكر
بعيداً عن لندن
الساعة 05:40 صباحاً
بشير البكر
لم أحب لندن حين دخلتها أول مرة عام 1992، ولكني ألفتها بعد عدة زيارات، ونشأت بيننا صلةٌ حميمية، وصرت أقصد أماكن محدّدة، وأسكن في فنادق تتيح لي ممارسة رياضة المشي التي أعتبرها المدخل الأول للوصول إلى قلب المدينة، ولكن حين استقر مقامي بها للعمل في "العربي الجديد" عام 2014، بدأت بيننا علاقة ملتبسة.

 أخذت أقع في غرامها، ولكن ذلك لم يردعني عن هجائها، ولي ديوان من الشعر يصدر قريباً تحتل لندن مساحة خاصة فيه. البرد والطقس الرمادي والريح التي حضرت بقوة في الشعر الإنكليزي. ففي نهاية الأمر، بريطانيا جزيرة تحدها البحار، وهي مفتوحة من كل الجهات. وأكثر ما كان يضايقني في هذه الحاضرة الإمبراطورية هو ندرة الشمس التي لم يتجاوز ظهورها طيلة شهر يناير/ كانون الثاني 2018 ساعات.

حين يحل الربيع، تنقلب المعادلة، ويتبخر شقاء العام، وتتحول المدينة إلى مهرجان لاحتفال النبات. لا توجد مدينة في الكون تنافس لندن على احتفائها بالخضرة التي تصل إلى حدّ فاحش. أكثر من نصف مساحة لندن حدائق تستقبل نباتاتٍ من كل الفصول والجغرافيات. هي مدينة تجعل الزائر يقع في غرامها خلال ربيعها الذي يبدأ في نهايات أبريل/ نيسان الذي قال عنه الشاعر إليوت: "نيسان أقسى الشهور.. يخرج فيه الزنبق من الأرض الميتة".

حين غادرت لندن، أحسست بألم لم يصبني من قبل. ليس بيننا علاقة حب وافترقنا قسراً حتى يؤلمي قلبي إلى هذا الحد. إذن، ما هي المسألة حين يكون الحب ولا يكون؟ كأني خنت هذه المدينة، حين تركتها في الوقت الذي بدأت تقبل نحوي وتصبح أكثر ألفة.

أخبرني صديقي اللندني الشامي حسام الدين محمد أنه لم ينم باطمئنان إلا في لندن. ورأيت هذا في سلوك كتاب وفنانين عراقيين عديدين اختاروا لندن منفى خلال ديكتاتورية صدام حسين، ولكنهم لم يعودوا إلى العراق بعد سقوط النظام في عام 2003. والنتيجة أنهم فضلوا لندن على بغداد التي حلموا طويلا بالعودة إليها، ورغم أن نهر التايمز لا يشبه دجلة فإنه في سيره المغناج أعطى للشعر معادلاتٍ أخرى.

المكان الجديد منحني خيالاً جديداً، وجملة شعرية أشد رحابة وكثافة، وأخذني نحو عوالم لم أكن سأصل إليها لو أني بقيت في باريس التي صرت أحس بأني استهلكتها، ولا بد لي من التجديد. وهذا التجديد جاء من لندن، ذات الألوان المختلفة التي تبهرك، ثم تفرض عليك إيقاعها إذا كنت من الناس الذين يؤمنون بالتفاعل مع الآخر، والإصغاء إلى نبضه الداخلي. وكان من الطبيعي أن يختلف الشعر، وتأتي القصيدة على وزن الشجر الذي يحيط بك من كل مكان.

في الثاني عشر من أبريل/ نيسان الماضي، تركت فوق الطاولة رزمة أوراق بيضاء وأقلاماً بألوان متعدّدة، وأغلقت باب البيت من دون أن أنظر خلفي، وذهبت إلى المطار، ومعي حقيبة متوسطة الحجم، وضعت فيها بعض الملابس والكتب والدفاتر. ورغم أني عازم على ترك لندن، وخططت لذلك منذ حوالي عام، اكتشفت، حين حانت اللحظة، أن الأمر ليس هيناً.

وأحسست في طريقي إلى المطار بما تفعله بنا المدن والنساء من دون أن ندري، وأن لحظة الفراق تفتح هوةً واسعة كي يرى الكائن نفسه وحيداً، ويتعرّف على أقسى ما في الحياة، ما لم يتعلمه من التجربة التي مر بها، وكي يدرك، أيضاً، أن المكان يصبح هو، حين يكون قد انقطع طويلاً عن المكان الأول، وصارت تختلط عليه الأمكنة حيث حل أو رحل، بعيداً عن الشام، أرض السماء الأولى.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً