عبدالوهاب قطران
صنعاء.. برزخ رمادي لا يشبه الحياة ولا الموت
الساعة 03:12 مساءاً
عبدالوهاب قطران

صنعاء.. ماذا أحدثكم عنها؟

يكفيها بيتُ البردوني:

"مليحة عاشقها السلّ والجربُ."

في صنعاء، صارت الشوارع أسواقًا مفتوحة للتسول:
نساء، فتيات جميلات، أطفال، رجال، شيوخ، يجوبون المدينة في كل مربع، يستجدون الناس.

تتوقف خمس دقائق في أي شارع، فيمر عليك عشرات المتسولين.. مشهد مرعب، مؤلم، يجعلنا نكره الخروج من بيوتنا إلا للضرورة القصوى.

كل شيء هنا غالٍ، باهظ، متوحّش في كلفته:
الكهرباء، الماء، الغاز، الوقود، التعليم، الصحة، الاتصالات، الإنترنت. والناس بلا دخل، بلا رواتب، بلا وظائف.

لا أمطار، لا خصب، لا محاصيل. حتى الأرض شحت، والمواسم جفت، والزراعة ماتت من العطش.

الأسواق راكدة، الاقتصاد مشلول، الناس يتضورون جوعًا بصمتٍ وكرامةٍ مكسورة.

في صنعاء، لا نعيش كما يعيش البشر، بل نحيا كما تُحيا الحروب...

نركض فوق جراحنا، نحترق في صمت، ونبتلع مرارات الحياة اليومية كأنها وجبة مقررة.

كل شيء هنا ثقيل: الهواء، الصمت، الظلال، حتى الأمل إن وُجد، يأتي منكس الرأس، كأنه يعتذر عن تأخره.

نحنُ أبناء مدينة اختطفت من التاريخ والجغرافيا، ووُضعت في برزخ رمادي لا يشبه الحياة ولا الموت. مدينة عالقة بين أنفاس الموتى وصراخ الأحياء.

ينطبق علينا قول نيكوس كزنتزاكيس:
"حيث الإله القاسي للشعب يملي الوصايا الشديدة الصرامة: الحياة حرب، والعالم ساحة قتال. وواجبك الوحيد هو الانتصار. لا تنم. لا تضحك. لا تتزين. لا تتكلم. هدفك الوحيد في الحياة هو القتال. ولهذا... قاتل."

وهكذا قاتلنا.. لا لأجل قضية، ولا حبًا في البطولة، بل لنُبقي أرواحنا واقفة، كي لا تسقط كما سقطت جدراننا وأسقفنا وذكرياتنا.

تحولنا إلى كائنات مشوهة، نلهث خلف لقمة باردة، وكهرباء وغاز  ووقود مسلع باهض الثمن، ودواء مفقود، وسلام داخلي يبدو في حكم المستحيل.

أصبحنا وحوشًا حضارية، نعيش بأطرافنا لا بقلوبنا،
نخجل من الضحك، ونتوجس من السكينة، كأن الفرح في صنعاء تهمة سياسية، والطمأنينة خيانة وطنية.

لقد صرنا نعيش كما تُعاش النكبات.. نكفّن أرواحنا صباحًا، ونحييها ليلًا، كي نكمل هذه الدوامة الأبدية.

صنعاء لم تعد مدينة، بل ساحة حرب مفتوحة على النفس، على الذاكرة، على الحلم، وعلى الحياة نفسها.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر