الرئيسية - ثقافة - "مؤتمر الحيوانات".. عندما يقرر أهل الغابة مصائر البشر
"مؤتمر الحيوانات".. عندما يقرر أهل الغابة مصائر البشر
الساعة 06:07 مساءاً (المنارة نت / ثقافة )

الأدباء والكتّاب الذين مرّوا بتجربة الحرب الكبرى كجنود مقاتلين، عددهم كبير، وكل منهم روى قصّته على طريقته، لكن الكاتب الألماني إريش كاستنر، اتخذ منحى مغايراً، وكتب روايته الساخرة "مؤتمر الحيوانات" بعد الحرب العالمية الثانية، ونشرها عام 1949.

أمضى كاستنر (1939–1945) فترة طويلة في ألمانيا ممنوعاً من الكتابة والنشر، كما تمّ إحراق كتبه، واكتوى بنار النازية التي حاربته بقسوة، ونشر قصيدته اللاذعة "هل تعرفون بلداً تزهر فيه المدافع؟".

حديثاً تمّت ترجمة الرواية إلى اللغة العربية، من قِبل الكاتب والمترجم سمير جريس، وصدرت عن دار الشروق، مع تحويل أسماء الأبطال إلى أسماء عربية. وليس غريباً أن تترجم الرواية إلى نحو 70 لغة، وتباع منها ملايين النسخ، ويتم اقتباسها للمسرح والسينما وكتب الرسوم مرات عدّة.

إنها رواية لليافعين والبالغين على حد سواء، تحكي عن جنون البشر الذي لن ينتهي إلا مع نهاية العالم. وتقوم على تخيّل انتفاضة للحيوانات ضد الإنسان، الذي فشل في تجنّب الحروب المدمّرة. 

ينحو الكاتب جزئياً نحو حكايات "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وأشعار لافونتين الخرافية الشهيرة، وجورج أورويل في "مزرعة الحيوان"، عندما وضعوا على ألسنة الحيوانات، قضايا الإنسان ومشكلاته في قالب أدبي ممتع.

لكن إريش كاستنر أضاف محكياً آخر، معاصراً باستعارته لطابع حكايات "والت ديزني" بأبطالها الكرتونية، تنبه الإنسان الذي يرهن مصيره للعنف، وهو يظن بأنه يخدم السلام.

انتفاضة في قلب الصحراء:

رسم الكاتب ملامح ثلاثة حيوانات رئيسة، هم الأسد ألويس، والفيل أوسكار، والزرافة ليوبولد، وهم جالسين في لحظة استلقاء ملولة قرب بحيرة في قلب الصحراء الأفريقية، يتحسرون بمرارة على حال هذا الإنسان المعاصر.

تقول الزرافة بعد أن ملأت جوفها بجرعات من الماء: "يا لهم من أناس فظيعين، كان بإمكانهم أن ينعموا بحياة رائعة، إنهم يغطسون مثل الأسماك، ويركضون مثلنا، ويبحرون مثل البط، ويتسلقون مثل الوعول، ويطيرون مثل النسور، لكن ماذا يفعلون بقدراتهم هذه؟".

هذا التشبّه بمقدرات الحيوانات، التي استطاع الإنسان الوصول إليها، لكي يعيش بشكل أفضل، ويرتاد الجبال العالية والبحار العميقة والأدغال الكثيفة والسموات السامقة، وظّفها أيضاً لبناء الحدود والجدران العازلة، وإعلان الحروب في كل مكان. وهو ما جعل الأسد ألويس يزأر غضباً ويجيبها: "إنهم يشعلون الحروب والثورات والإضرابات والمجاعات، وينشرون أمراضاً جديدة".

من أجل الأطفال:

ما جعل الحيوانات تغضب أكثر، هو رؤية حال الأطفال الأبرياء يدفعون ثمن ما يحصل. بل ازداد حنقهم أكثر لأن هذه الكوارث تحدث تحت شعار خادع، هو ضمان مستقبل آمن.

هذا التبرير للحفاظ على البراءة وضمان المستقبل المشرق لرجال الغد، بافتعال الصراعات وإراقة الدماء، أي هذا التناقض الخارج عن كل منطق معقول، حين نفكر فيه بتمعّن، هو ما أغاظ إيريش كوستنر. منطق أعوج تُعقد من أجله عهود واتفاقيات ومؤتمرات يحضرها رؤساء الدول وكبار قادة الجيوش. 

جاء على لسان الفيل أوسكار: "أشعر بالأسى على أطفالهم حقاً، يا لهم من أطفال طيبين، لكنهم يُجبرون على خوض الحروب والثورات، ثم يأتي الكبار ليقولوا إنهم فعلوا ذلك من أجل مستقبل أفضل لهم.. يا لها من وقاحة".

ويشكّل انعقاد إحدى هذه المؤتمرات، وهو السابع والثمانون في الرواية، في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، المنطلق الذي بنى عليه الكاتب حبكتها وميزتها. 

مؤتمر يهدف إلى تكريس الحروب والنزالات، فاستعارت الحيوانات الفكرة، وقررت بدورها تنظيم مؤتمرها الأوّل والنهائي. مؤتمر غير تقليدي، تسعى من خلاله لتحقيق السلام العالمي، لكنها على عكس البشر، تنعم بالسلام الداخلي الطبيعي، وتضيف إليه روح الدعابة والسخرية المضيئة.

في ناطحة السحاب الحيوانية حيث يعقد المؤتمر، نقرأ في إحدى صفحات الرواية أن بها "مكتب بريد رئيسي للحمام الزاجل، وفندق للطيور المهاجرة، ومدرسة رقص للدببة، وأكاديمية لتدريب الأسود، ومدرسة للفروسية والقفز للخيول، ومعهد لتنمية قدرات القرود الموهوبة، ومعهد موسيقي للطيور المغردة، وكلية تقنية للعناكب والقنادس والنمل، ومحل نظارات للثعابين ذات النظارات، ومصنع طلاء فسفوري لليراعات، [وقاعات طعام للحيوانات آكلة اللحوم، وأخرى للنباتية، وصالات للاجترار".

مؤتمر السلام:

في هذا الفندق، اجتمعت سائر الأنواع الحيوانية التي أرسلت ممثلاً خاصاً عن جنسها لحضور المؤتمر، في مشهد شبيه بما بعد الطوفان. جاءت سباحة أو ركضاً أو زحفاً أو طائرة. وقامت بتوجيه الإنذار إلى المؤتمر البشري، كي يتم التخلي عن الحرب نهائياً، وإزالة الحدود، وحلّ الجيوش، وتمكين الأطفال من العيش بسلام.

حرب "ذكية":

وللتدليل على جدية مطالبهم، قاموا بخطوات عملية ورمزية قوية، حين تمّت الاستهانة بتوصياتهم، وذلك بالهجوم على رموز الحرب: الملفات السرية، والأزياء الرسمية، وغيرها. 

في البداية وباقتراح من الفأر ماكس، الذي أوحى له ابن عمه الكرتوني ميكي ماوس، بدعوة كل الفئران والقوارض إلى الهجوم على مقر ّالمؤتمر البشري، وتمزيق كل الأوراق والوثائق والسجلات حيث يتم تدوين القرارات كلها.

لكن وجود نسخ منها بديلة، جعلهم يفكرون في وسيلة جديدة. وهكذا تمّت دعوة حشرات العث، آكلة الصوف، للهجوم في غيوم داكنة على كل الحاضرين، الذين صاروا عراة بالكامل.

هنا أيضاً لم تنجح الخطة مباشرة، ما دفع بمؤتمر الحيوانات إلى نزع الأطفال من أهاليهم، وإسكانهم بأمان في دفء مساكن الحيوانات المختلفة، حتى تتحقق مطالبهم. 

المغزى والأثر:

جنح خيال إيريش كاستنر بشكل واسع، مانحاً صوراً بليغة تمزج بين المعطيين الإنساني والحيواني، في توليفة مثيرة للعاطفة، وداعية للتفكير بوسيلة الإبداع في العبث الإنساني الكبير.

أراد الكاتب لفت الانتباه عبر انتقاد سياسات البشر، بعد فشل قادة العالم في تحقيق سلام دائم، وإلقاء الضوء على المسؤولية تجاه الأجيال القادمة، وضرورة حمايتها وضمان مستقبلها، والدعوة إلى الوحدة والتضامن، على غرار تعاون وتعاضد الحيوانات المختلفة من أجل قضية مشتركة، على عكس البشر الأنانيين غير المتفقين على أي شيء

فكرة الكتاب، تشجّع الأجيال الجديدة، على الإيمان بإمكانية التغيير وعدم تكرار أخطاء الأجيال السابقة. وفي هذا الإطار، قالت إذاعة الثقافة الألمانية عن الكتاب: "ربما لهذا السبب تحديداً كان كاستنر ملاحظاً بارعاً، ولا يزال عمله ذات صلة حتى اليوم، وخصوصاً في ظل تصاعد النزعات القومية والتطرّف اليميني في العالم".

"الشروق"

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر