- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
إلى ما قبل الانسحاب الأمريكي من العراق لم تكن المبادلات التجارية العراقية الإيرانية مهمة، بل كانت العلاقات الاقتصادية مقطوعة. لكنها تطورت بسرعة حتى غدت تشكل تهديداً لمصالح العراق وتنميته. ولا يعود السبب في هذا التطور إلى عوامل اقتصادية فقط بل سياسية أيضًا.
أضعفت حرب 1980-1988 البلدين خاصة من الناحية المالية حيث تراجعت أسعار النفط وانخفضت بالتالي الإيرادات العامة.
فقد العراق الاحتياطي النقدي ووصلت مديونيته الخارجية إلى 120 مليار دولار. وبعد سنتين فقط من نهايتها، ونتيجة لسوء إدارة الشأن العام، ظهرت أزمة جديدة اشد وطأة، إذ أدى احتلال الكويت وما تلاه من مقاطعة شاملة وفاعلة إلى تدهور هائل للاقتصاد العراقي، وتخبط العراقيون في مشاكلهم المعيشية اليومية. في المقابل تحسّنت الأحوال الاقتصادية الإيرانية من عدة زوايا مالية وتجارية. حدث إذن اختلال اقتصادي واضح بين البلدين.
وبعد الاحتلال العسكري الأمريكي دخل العراق في دوامة الصراعات المستمرة والعنيفة والتي أفضت إلى إضعافه من جديد ومن جميع الجوانب. وبعدما انسحبت واشنطن رسمياً في عام 2011 ، حلت طهران محلّها. أصبحت القبضة الإيرانية السياسية والعسكرية أداة فاعلة للهيمنة على تجارة العراق وماليته.
رغم مشاكلهم الخطيرة والعديدة، أحرز الإيرانيون نجاحاً باهراً في صناعتهم التحويلية، الأمر الذي أدى إلى تحسن صادراتهم غير النفطية التي انتقلت من 2.9 مليار دولار في 1998 إلى 33.4 مليار دولار في 2021. نجم هذا الوضع عن الإهتمام المتزايد بالإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. في الطرف الآخر استمر تدهور الوضع الاقتصادي في العراق.
من هنا فالهيمنة الإيرانية على العراق نتيجة منطقية لهذا التطور الاقتصادي والسياسي. وهي تشمل ثلاثة جوانب رئيسة تتعلق بالمالية والاستثمارات والواردات.
وقّع البلدان على اتفاقية الدفع المالي في عام 2019، وبموجبها تقوم البنوك العراقية بسداد أثمان المشتريات الإيرانية من مختلف الدول. هي محاولة لمواجهة العقوبات الأمريكية لكن في المقابل يتعرض العراق للخطر دون أي مكسب اقتصادي.
أما الاستثمارات الإيرانية فأثرت سلبياً على التنمية العراقية لعدة أسباب، منها حصولها على امتيازات سخية وكذلك وبصورة خاصة دورها الفاعل في تدهور الصناعة المحلية، وعدم خضوعها للقوانين العراقية التي توجب على المستثمرين تشغيل العراقيين.
ومن المعلوم أنّ الشركات الإيرانية التي تعمل في الطاقة والسكن والسياحة وغيرها والمنتشرة خاصة في المحافظات العراقية الجنوبية لا تستخدم إلا الإيرانيين. في حين أعطت الفقرة الأولى من المادة 12 من قانون الاستثمار الحق للمستثمر (العراقي والأجنبي) توظيف الأجنبي في حالة واحدة فقط وهي عدم وجود عراقي يملك نفس المؤهلات. ولكن على الصعيد العملي اليد الإيرانية العاملة في العراق غير ماهرة فهي لم تجد فرصة عمل لها في بلدها وتقبل بأجور زهيدة أثرت على العمال العراقيين. يسبب هذا الوضع مشاكل خطيرة في مقدمتها تزايد البطالة وتفاقم الفقر في العراق. وبسبب ذلك برزت حالة من الاستياء الشعبي للوجود الإيراني.
أيضًا، فالتجارة الخارجية بين البلدين تكاد تقتصر على الصادرات الإيرانية، ففي عام 2021 بلغت الصادرات الإيرانية غير النفطية للعراق 7448 مليون دولار (وفق الإحصاءات الإيرانية) . في حين لا تتجاوز الصادرات العراقية إلى إيران 15 مليون دولار بعد أن شهدت ارتفاعاً كبيرًا. مع العلم أن ربع الصادرات الإيرانية الكلية تتجه إلى العراق.
خطورتها
تحت ظل الأزمة الناجمة عن سياستها المالية والعقوبات الأمريكية ونظراً لسيطرتها على القرار السياسي العراقي، تحاول إيران الحفاظ على المكانة المهمة للعراق وتطويرها.
ويستوجب هذا الأمر استمرار الريعية. إذ أن أيّ تقدم صناعي أو زراعي يحرزه العراق، يقود بالضرورة إلى هبوط الصادرات الإيرانية، ويترتب عليه تردي مالية إيران الداخلية والخارجية المتردية أساسًا. عندئذ ينخفض الاحتياطي النقدي ويستمر تدهور القيمة التعادلية للتومان وتتزايد معدلات التضخم وترتفع البطالة ويتصاعد الفقر. لذلك هنالك اهتمام منقطع النظير بأن لا يحرز العراق أي تقدم صناعي أو زراعي. وتستخدم مختلف الوسائل لتحقيق ذلك.
الخطورة الأولى التبعية الغذائية والطاقية.
قسط كبير من الواردات العراقية من إيران تتعلق بمواد ضرورية للمعيشة كالفواكه والخضراوات. تتحكم إيران بالإنتاج الزراعي العراقي عن طريق السدود المبنية على الأنهر التي تنبع من أراضيها والتي تمر بالأراضي العراقية كنهر الوند ونهر كارون ونهر كنجان والزاب الصغير.
كما استطاعت إيران خاصة بعد تدمّر مصفى بيجي تصدير البنزين للعراق الذي يعد من كبار البلدان المصدرة للنفط في العالم. كما يستورد الغاز الطبيعي الإيراني لإنتاج الكهرباء ويشتري أيضاً الكهرباء.
يبلغ الإنتاج العراقي من الطاقة الكهربائية 15700 ميغاوات. أما المشتريات من إيران فتنقسم إلى قسمين: أولهما 1400 ميغاوات من الكهرباء، وثانيهما الغاز الطبيعي لإنتاج 2500 ميغاوات. أي تعادل الواردات الطاقية من إيران ربع الإنتاج العراقي وهي نسبة عالية جداً ونادرة على الصعيد العالمي. وتتجلى خطورة التعامل الكهربائي مع إيران في عدم ترددها بقطع التيار الكهربائي عن العراق حتى في حالة العسر المالي.
ففي النصف الثاني من عام 2015 دخل العراق في معارك مع داعش أثرت بشدة على حالته المالية. وبدلاً من أن تتولى طهران مساعدة حليفتها بغداد قامت بقطع الإمدادات الكهربائية مطالبة بتسديد ما على العراق من ديون. ولم يوافق الإيرانيون على مواصلة الإمدادات إلا بعد أن دفع العراق قسطاً من ديونه في مطلع عام 2016. تضررت أربع مدن عراقية جراء هذا القطع وهي البصرة والعمارة وديالى وخانقين.
تتأتى هذه التبعية الطاقية من سببين على الأقل. السبب الأول عدم رغبة الحكومة في استغلال الغاز المصاحب للنفط المتوفر بكميات هائلة في العراق والذي يهدر بالإحراق. والسبب الثاني عدم رغبة الحكومة في تنويع مصادر الإمدادات الغازية من دول الخليج.
في يوليو/تموز 2021 قطعت إيران مرة أخرى التيار الكهربائي عن العراق بحجة حاجتها. وفي يناير/كانون الثاني 2022 قررت بغداد إبرام مذكرة تفاهم للربط الكهربائي مع الرياض، لكن بداية تنفيذها سيكون بعد سنتين.
الخطورة الثانية تدهور الإنتاج المحلي.
المواد المستوردة من إيران استهلاكية وليست إنتاجية. ولأسباب عديدة تصل هذه المواد إلى السوق بأسعار متدنية مقارنة بالمواد العراقية المماثلة. الأمر الذي أدى إلى توقف عدد كبير من المنشآت العراقية الصناعية والزراعية. وتشير التقديرات إلى أن أسعار الدواجن المستوردة من إيران تعادل نصف أسعار الدواجن المنتجة محليًا.
الخطورة الثالثة والأهم الفساد المالي.
لابد من فحص الإحصاءات العراقية المتعلقة بالتجارة الخارجية التي تخفي مشاكل أخرى أكثر خطورة من الهيمنة التجارية.
انتقلت الواردات غير النفطية العراقية من إيران من 1885 مليون دولار في عام 2016 إلى 8757 مليون دولار في عام 2017. أي خلال سنة واحدة فقط ارتفعت الواردات العراقية بمبلغ 6872 مليون دولار. إنه ارتفاع هائل لم يسجل العراق مثيلاً له على الإطلاق ويثير عدة تساؤلات.
وعند الرجوع إلى التقرير السنوي للتجارة الخارجية العراقية الخاص بالواردات لعام 2017 والصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء (الصفحة 109) يتضح بأن الواردات العراقية من البطيخ الأخضر الإيراني انتقلت من 66 ألف طن في عام 2016 إلى 276 ألف طن في عام 2017. لنسلم بصحة هذا التحول الغذائي المفاجئ. لمّا كانت زيادة الكمية تعادل أربعة أضعاف، يفترض من الناحية المنطقية أن يدفع العراقيون قيمة تعادل أربعة أضعاف أيضاً. على الصعيد العملي انتقلت القيمة من 16 مليون دولار في عام 2016 إلى 2861 مليون دولار في عام 2017.
والأمَر من ذلك أن واردات العراق من الطماطم الطازجة الإيرانية انتقلت من 5.3 آلاف طن بقيمة تقل عن مليون دولار في 2016 إلى 6.5 ملايين طن بقيمة 1655 مليون دولار في 2017. في حين تشير الإحصاءات الرسمية الإيرانية إلى أن صادرات الطماطم إلى مختلف دول العالم بما فيها العراق بلغت 185 مليون دولار في 2017. أما صادراتها فتقل عن مليون طن موجه ليس فقط للعراق، بل كذلك للإمارات وأفغانستان وروسيا وغيرها.
بموجب الإحصاءات العراقية اشترى العراق البطيخ والطماطم من إيران بمبلغ 4.5 مليار دولار أي ما يعادل الصادرات النفطية العراقية لمدة شهر.
يدل هذا الوضع دلالة واضحة على ثلاثة أمور:
1- الأمر الأول أن الواردات الحقيقية من إيران اقل بكثير من الحجم المذكور أعلاه. ورغم ذلك لا تزال إيران تستحوذ على المرتبة الأولى في الواردات العراقية.
2- الأمر الثاني أن قسطاً من السرقات وتبييض الأموال يمر عبر تجارة منتجات غذائية.
3- أما الأمر الثالث فيتعلق بالدعوة المتمثلة بزيادة الواردات الإيرانية إلى عشرين مليار دولار. وهذا يعني زيادة حجم الفساد المالي.
استناداً إلى ما تقدم بات من اللازم وضع الحلول المناسبة لمعالجة خطورة الواردات العراقية من إيران. ينبغي أن تكون هذه الحلول محددة بدقة وممكنة التطبيق من الناحية العملية، وفاعلة من حيث نتائجها، ومقبولة من الجانب الشعبي.
ما العمل؟
اتخذت الهيمنة التجارية الإيرانية بعداً سياسياً منذ احتلال العراق، حيث سعت جميع الحكومات إلى ترضية طهران بتقديم مختلف الامتيازات والتسهيلات التجارية والاستثمارية. لذلك تولدت قناعة لدى العراقيين بعدم إمكانية تحقيق أية خطوة للتصدي للتبعية الاقتصادية ما لم تتم معالجة التبعية السياسية.
فٌرضت الهيمنة التجارية الإيرانية على العراق فرضاً وقامت باستمرارعلى الريعية. بالتالي فإن المقاطعة ضرورية أيضاً للنهوض بالتنمية الصناعية العراقية. كما اتخذت المسألة بعداً سياسياً جديدا، إذ تمثل مقاطعة البضائع الإيرانية رد الشعب على موقف طهران المعادي للحراك العراقي.
لكن الهدف المباشر للعراقيين يجب ألا يصب في الإضرار بإيران بل يرتكز على الدفاع عن حق العراق في التنمية. هكذا ينبغي بناء عراق الغد.
المقاطعة الرسمية غير ممكنة التنفيذ تحت ظل الظروف السياسية الحالية. لأن من المهام الأساسية للسلطات العراقية والجماعات الموالية لطهران العمل على تسهيل الصادرات الإيرانية خاصة تحت وطأة العقوبات الأمريكية التي أثرت بشدة على مالية إيران الداخلية والخارجية. وبالتالي لا تتحقق مثل هذه المقاطعة إلا إذا تغير نظام الحكم في بغداد.
أضف إلى ذلك أن قرارات رسمية بالمقاطعة تهدف إلى الإضرار عمداً بالاقتصاد الإيراني. أما المقاطعة الشعبية فتعبر عن خيار المواطنين، وهي ظهرت منذ عدة سنوات لكنها اتخذت طابعاً جديداً اعتباراً من بداية انتفاضة تشرين، وهي ليست سياسية فقط بل كذلك اقتصادية تهدف إلى تحسين الإنتاج المحلي.
يعتمد نجاح المقاطعة اعتماداً أساسياً على القدرة الإنتاجية العراقية. ينبغي ألا تكون مقاطعة البضائع الإيرانية وسيلة للوقوع في فخ تبعية تجارية لدولة أخرى كتركيا، بل فرصة ذهبية تستغل للتنمية المحلية.
لا تحتاج المنتجات الزراعية إلى فترة زمنية طويلة بل إلى سياسات ملائمة.
والعراقيون يفضلون منتجاتهم الوطنية نظراً لجودتها. يتعين أن تتناول هذه السياسات الدعم الحكومي للزراعة بشتى الوسائل وكيفية الاستغلال الأمثل للأطر العلمية في تحسين الإنتاج من حيث الجودة والكمية. ومنها الاستفادة من الأعداد الغفيرة من العاطلين عن العمل من خريجي كلية الزارعة والكليات والمعاهد الأخرى ذات العلاقة.
أما المنتجات الصناعية فتعتمد على درجة التكنولوجيا المستخدمة فيها: المنخفضة كالمواد الغذائية المصنعة والمتوسطة كصناعة المواد الكهربائية والعليا كالأدوية والمعدات المعقدة. العراق لا ينتج إلا بعض السلع ذات التكنولوجيا المنخفضة، وبالتالي يحتاج إلى استيراد السلع الأخرى.
لذلك لابد من اتباع الخطوات الثلاث التالية بصورة متلازمة:
الخطوة الأولى والأهم التنمية الصناعية.
وترتكز على البحوث العلمية الحقيقية التي يمكن استخدامها على الصعيد العملي. ولابد من رعاية الاختراعات وزيادة الإنفاق الحكومي المخصص للتطوير الصناعي. وينبغي عقد اتفاقات واسعة مع الشركات الأجنبية المعروفة من اجل التصنيع المحلي المدني والعسكري.
ستتكفل هذه التنمية الصناعية بتقليص الاعتماد على استيراد المعدات والبضائع الزراعية والصناعية، وسيترتب على ذلك زيادة النمو والقدرة الشرائية للمواطنين، وتراجع للريعية والفقر.
كما ستقود هذه التنمية إلى الحد كثيرًا من البطالة. وهكذا يتحسن مركز الميزان التجاري ويزداد حجم النقد الأجنبي ويرتفع سعر صرف الدينار مقابل العملات الأخرى.
الخطوة الثانية تنويع مصادر الاستيراد.
لا تتحقق التنمية الصناعية بين ليلة وضحاها. بل تحتاج إلى جهود متواصلة وفترة زمنية معقولة واعتمادات مالية كافية. فخلال الفترة الانتقالية سيستمر العراق في استيراد السلع الاستهلاكية والإنتاجية التي يحتاجها. وسينخفض استيراده تبعاً لنتائج هذه التنمية. عندئذ يتعين الاعتماد على عدة دول في الاستيراد انطلاقاً من اعتبارات توازن الميزان التجاري وعلاقة الجودة بالسعر.
الخطوة الثالثة الرسوم الجمركية.
لابد من إعادة النظر في جداول التعريفة الجمركية العراقية المطبقة حالياً بحيث تنسجم مع تطور الإنتاج المحلي. لابد من زيادة الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، عندئذ تصل هذه السلع إلى المستهلك العراقي بأسعار مرتفعة فينصرف عنها لصالح السلع المحلية.
والرسوم الجمركية مرنة، يمكن فرض أسعار عالية على بعض السلع في فترة معينة وأسعار منخفضة نسبياً على سلع أخرى في فترة معينة كذلك. يعتمد الأمر على تطور الصناعة الوطنية.
بات من الضروري معالجة الهيمنة التجارية الإيرانية على العراق بسرعة وفاعلية. ولكن لا يصح التخلص من التبعية الإيرانية للوقوع في تبعية دولة أخرى.
المصدر : "البيت الخليجي"
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر