الرئيسية - ثقافة - الاستشراق الأدبي
الاستشراق الأدبي
الساعة 12:14 صباحاً (العرب اللندنية)

ارتبط الاستشراق، في الغالب، بالدراسات الفكرية والفلسفية للمجتمعات العربية والإسلامية كمجتمعات مغلقة على ذاتها تمارس طقوساً غريبة ومعقدة عصية الفهم على العقل الغربي، بالإضافة طبعاً إلى البعد الاستعماري وحاجة الغرب إلى مزيد من الدراسات والتحليلات اللازمة لفهم عقلية العربي والمسلم وآلية تفكيره ليسهل التعامل معه، أو بعبارة أخرى ليسهل خداعه والهيمنة على مقدّراته وسلب ثرواته، هذا المفهوم البدائي لوظيفة الاستشراق لن يحول دون طرح التساؤل الخاص باقتصار الجهد الغربي على تلك النواحي ومكمّلاتها التي فرضها الواقع، حين لم يكن فن التصوير متاحاً في القرن الثامن عشر على سبيل المثال، فاستعاض المستشرقون بجيش من الرسامين الواقعيين لتجسيد تفصيلات الحياة اليومية في قصور الأمراء والأسواق الشعبية وتجارة العبيد والجواري، وهو ما سينتج لاحقاً ما بات يُعرف بفن المستشرقين -الآسرـ والمحايد.

لقد أدت التراجعات والردّات المجتمعية والفكرية العربية في العصر الحديث إلى تدهور الشخصية العربية -التي كانت خاضعة لمجهر الاستشراق بجميع معطياته- لتنتج لنا شعوراً مريعاً بالدونية، ليس بإزاء الأعمال الفنية للمستشرقين وحسب، بل وبالشخصيات الاستعمارية نفسها تلك التي أتت على محفّة الاستشراق لتمهد للمطامح السياسية والنهم الاستعماري لاحقاً، من أمثال توماس إدوارد لورنس المعروف بـ”لورنس العرب” وغيرترود بيل أو المس بيل وغيرهما، هؤلاء الذين بات العربي يقدّمهم في مذكراته وأفلامه وتدويناته التاريخية كشخصيات نزيهة تنزع للخير وتحترم التقاليد وذات سلوك أرستقراطي يقدّر قيمة الفنون والتراث والفولكلور المحلي.

لكن على الرغم من ذلك نأى ما يمكن تسميته اصطلاحاً بالاستشراق الأدبي عن مخططات الهيمنة والمطامع إلى حد ما، فكان الأقرب لتشرّب الواقع الشرقي واستلهام تركيبته، لينتج لنا بعض الكتّاب الغربيين المتأثرين بالشرق الكثير من التجارب الأدبية الراقية، التي ظلت لسببٍ أو لآخر، بعيدة عن التناول أو الدراسات النقّديّة والترجمة إلّا في نطاق محدود للغاية.

وفي الوقت الذي أُلفت مئات الكتب عن الاستشراق بمفهومه الواسع، بقي ما يمكن أن نطلق عليه تجارب الاستشراق الأدبي بعيداً عن اهتمام تلك الدراسات والنقّاد ومراكز الأبحاث الفكرية، وظلت أعمال أدبية مهمة لكتّاب غربيين تناولوا الواقع العربي والإسلامي، من منطلق أنّ الحضارة لا تقاس بالتقدّم المادّي والعلميّ فقط، بل إنّ الحكمة وما تنطوي عليه من أبعاد فلسفية وفهم فطري عميق للحياة والعلاقة بين البشر، هي من مرتكزات الحضارة أيضاً.

لقد تقادمت مع الزمن تجارب هؤلاء الكتّاب الغربيين ولم يعد بالإمكان العثور على أعمالهم المهمة تلك وترجمتها وتقديمها للأجيال الجديدة من القرّاء العرب، أعمال لكتّاب مثل الفرنسي جالك غوييه والألماني ألياس كانيتي والإنكليزي إيدموند بوزوورث والإيطالي جيوفاني بوكاشيو وغيرهم الكثير، ممن وجدوا آنذاك مركّبات حكائيّة وثراءً معرفياً وغنىً فلسفياً في الموروث العربي ليتأثروا بها إلى هذا الحدّ ويستلهمونها بأعمال أدبية عميقة، مثل رواية “أصوات مراكش” و”حكايات كانتر بري” و”دي كاميرون” وغيرها الكثير من الأعمال الأدبية التي لم يسلّط عليها الضوء بعد أن كفّ هؤلاء عن استلهام الواقع العربي المفرّغ من البعد الحكائي والميثولوجي نتيجة لطغيان مفاهيم العنف والتطرّف وتبدّد الحياة المدنية.

كما أنّ انعدام الاهتمام بالأدب العربي في الغرب خلال العقود الأخيرة يعود إلى ابتعاد هذا الأدب عن محليّته وفشله في تأصيل هوّية محليّة يمكن أن تبهر الغربيين وتضيف لتجاربهم اختلافاً وتلوناً، كما أن إصرار الكثير من الأدباء العرب على تقليد النظريات الأدبية الغربية والتأثر الأعمى بتجارب الكتّاب الغربيين قد دفع بالمثقف الغربي للنظر إلى أدبنا كما لو كان ينظر إلى نسخة باهتة أو زائفة لأدبه المُقلد نفسه.

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر