د. مرفت مجلي
رسائل من المعبر الأوكراني
الساعة 07:01 مساءاً
د. مرفت مجلي

منذ أن تم تعييني سفيرة معتمدة في بولندا وسفيرة غير مقيمة في أوكرانيا، وأنا على تواصل مستمر مع اليمنيين في أوكرانيا، الذين يقدر عددهم بحدود 750 يمنيًا ويمنية، معظمهم من الشباب المؤهلين في مختلف التخصصات.

لم يدر بخاطري أبدًا أنه سيأتي يوم يتشرد هذا المجتمع اليمني -بعد تشرده الأول بسبب الحرب في اليمن- في دولة أوروبية، ليفقد أمنه واستقراره للمرة الثانية.

وبالرغم من أن العدد، كما كان يقال لي، مقدور عليه، إلا أن خصوصية هذا المجتمع واحتياجاته من وثائق ثبوتية يمنية (جوازات سفر) والاحتياجات الأساسية من غذاء ومأوى وتكاليف تنقل، كانت صعبة، نظرًا لأن اليمن أساسًا يعيش واقع حرب ووضعًا اقتصاديًا متدنيًا بالأساس.

ولكن هذا لم يمنعني من أن أسعى لتأمين الملاذ الآمن للمئات من اليمنيين وأسرهم التي كانت غالبًا تنتمي للجنسية الأوكرانية بحكم الانخراط في المجتمع الأوروبي، بخاصة أن بعضهم مقيم في أوكرانيا منذ سنين عديدة.

فقد كانت السفارة خلية نحل نعمل على أكثر من جهة، كنا نعمل على تأمين الخروج الآمن للعشرات من منطقة شرنهيف المحاصرة، حيث نسمع القصف يدوي من حولهم، ونحن نعطيهم المعلومات اللازمة للخروج، وتوجيهم إلى مناطق أكثر أمانًا، وأي الطرق يجب أن يسلكوها للوصول بأمان، والتنسيق بينهم وبين بعض الجنسيات المختلفة لمساعدتهم في المراحل المختلفة، إلى أن يصلوا إلى المعبر.

وفي الوقت نفسه، كنا نساعد اليمنيين الذين وصلوا المعبر ليتمكنوا من النفاذ إلى الحدود البولندية الآمنة.

لن أنسى وداع طالب الجامعة عماد عندما خالجه اليأس بعد قضائه ورفاقه الشباب أكثر من يومين في العراء والبرد بدرجة حرارة تحت الصفر وبدون غذاء ولا حتى ماء.

كانت كلمات عماد لي كأنها الأخيرة في حياته، حيث شعر بأن الموت صار محتمًا، لأن درجة حرارة أجسامهم بدأت في الانخفاض. وبالرغم من استنجاده، إلا أن اللباقة لم تبارحه وهو يشكرني على كل ما فعلته معهم من متابعة مع الجهات الأوكرانية والبولندية والمنظمات الإغاثية العاملة في المعبر. 

كان يقول لي: لا تحزني إن متنا من البرد في المعبر، فلقد فعلت ما بوسعك، ولا نلومك، بل بسببك استطعنا أن نقاوم حتى اللحظة.

لم يكن عماد الوحيد، فهناك العديد من اليمنيين واليمنيات، من بينهم أطفال ونساء وكبار في السن، يعانون أساسًا من أمراض مزمنة، مثل طالبة الطب أغادير التي تعاني من تكسر في الدم، والتي فجأة وجدت نفسها بلا عناية طبية وبلا حتى مأوى، وفي ظروف بالغة الصعوبة فرضتها الحرب والنزوح.

وبالرغم من أن المعبر يبعد 450 كيلومترًا عن العاصمة وارسو حيث أقيم، إلا أنني لم أتردد في الذهاب هناك مع القنصل اليمني، لكي نساعد في تذليل الصعوبات التي يواجهونها، ومنها إثبات هويتهم لكي يتم السماح لهم بالعبور، أو حتى على الأقل نقول لهم نحن هنا ولن نتخلى عنكم، فلربما الدعم المعنوي يقوي من عزيمتهم وقدرتهم على البقاء والتحمل.

فكنت أقف على الحدود البولندية الأوكرانية أنا والقنصل اليمني، لنعمل على إرسال الوثائق لحرس الحدود في كلتا الجهتين، للتعريف بأبنائنا فاقدي الوثائق بسبب الحرب في أوكرانيا، وفي اليمن من قبلها. وكنت على تواصل مستمر مع جهات الإغاثة الإنسانية، أحثهم على ضرورة إيصال الغذاء والماء لليمنيين العابرين المتواجدين في الطرف الأوكراني، حيث لم تستطع جهات الإغاثة ولا أنا الدخول للأراضي الأوكرانية.

ما يحدث في أوكرانيا ظلم بشع، ولكن أملنا من المجتمع الأوروبي والدولي أن يحتضن بشكل خاص اليمنيين واليمنيات ممن طالتهم الحرب في أوكرانيا، فغيرهم لديهم أوطان يعودون إليها.

بالإضافة إلى التواصل المستمر مع الشباب والبنات اليمنيين، وحثهم على البقاء معًا، وترشيد استخدام الهاتف حتى لا نفقد التواصل معهم في حال نفاد البطاريات، حيث إنهم في العراء مثلهم مثل مئات الآلاف من النازحين الذين هربوا بحياتهم من تحت القصف.

وكنت أعطيهم أملًا بأن الغوث قادم بالرغم من صعوبة ذلك واستحالته أحيانًا في تلك الظروف، لكي على الأقل يقاوموا حتى يصل الدعم الذي فعلًا وصل في اللحظات الأخيرة، بسبب الأعمال الجبارة التي كانت تقوم بها منظمات الإغاثة الإنسانية والحكومة البولندية، دون تمييز بين العابرين.

يعاني اليمنيون في أوكرانيا من سوء حظ لازمهم من اليمن وأزمتها الإنسانية التي تعد الأسوأ في هذا القرن، وحرب مستمرة إلى اليوم دخلت عامها الثامن، أدى إلى لجوئهم إلى بلد آخر، ليجدوا أنفسهم تحت طائلة حرب جديدة ذكرتهم بخسارتهم وطنهم الأول، والآن خسارتهم وطنًا جديدًا.

وكنا نرى الطائرات تأتي من مختلف دول العالم لإجلاء مواطنيها إلى بر الأمان، عدا اليمن، فنحن لا نمتلك هذا الخيار، وباتت العودة إلى الوطن ترفًا لا نستطيع تأمينه لأبنائنا.

وإذ يلتفت اليوم العالم بكل حواسه تجاه ما يحدث في أوكرانيا، لا يجب أن ينسى أن اليمن أساسًا تعيش مأساة بشعة منذ سبع سنوات. فالحرب هي الحرب. وكرامة الإنسان يجب أن يتم حفظها لأي إنسان، مهما كانت جنسيته أو عرقه، فالمبادئ الإنسانية لا تتجزأ.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص